معركة الوعي ... بقلم: د. هاشم غرايبه
كنت أستمع الى حديث مسجل لأحد الدعاة المعروفين، وذكر قصة أكد أنها واقعية، مفادها أن ثلاثة شركاء من تجار الأغنام ومنتجاتها من دمشق اعتادوا شراء بضاعتهم من البادية، وفي أحد المواسم ارتفع سعر الصوف كثيرا، فذهبوا الى صاحب الغنم الذي لم يعلم بارتفاع الأسعار، واشتروا منه بالسعر الرخيص السابق، ولما علم بالغبن رفضوا تعويضه.
تقول الرواية أنه بعد أشهر مرض أحدهم مرضا خطيرا فمات، ثم لحق به الثاني، فما كان من الثالث إلا أن ذهب الى البدوي بائع الصوف وأعطاه المبلغ الذي كان يطالب به، والذي أخذه قائلا: "لحقت حالك".
واضح أن القصة منسوجة أو محوّرة، لتؤدي وظيفة وعظية، لتخويف من يطمعون بجمع المال بلا اهتمام إن كان حلالا أو حراما، ودلالة أنها متخيلة مقولة البدوي، فهل هو عالم بتصاريف القدر أومتصل بالله مقدّر المرض والشفاء!؟.
ان العقاب الفوري للظالم، أو النجاة لمن رجع عن ظلمه، ليست من سنن الله في خلقه، فلو عاقب الله من اقترف ذنبا أو أكل حق غيره عقوبة فورية في الدنيا، لما جرؤ أحد على فعل سيئة، ولصار الناس كلهم فاعلي خير، طمعا في نيل عطاء الله الفوري جزاء إحسانه، وإذاً لسقط عن البشر التكليف، ولبطل مبرر الحساب والعقاب في الآخرة.
يعتقد بعض الوعاظ أن حسن نيته في الحض على الصلاح التقوى، تبرر له اختلاق القصص وترويج الحكايات الخرافية ذات المغزى الداعي الى الفضيلة، لكن ذلك هو أحد أبواب الكذب، والكذب نقيض للصلاح، ولا يوجد باب منه يفتح على الإيمان.
هنالك من بعض الدعاة المعاصرين، ممن يحملون شهادات علمية توحي بأنهم على درجة متقدمة من العلم، أو نالوا شهرة عبر ظهورهم المتكرر على الشاشات، يقدمون أبحاثا دالة على إعجاز القرآن في مجالات العلوم، ويبينون أن في آياته معلومات لم تكن معروفة في عصر التنزيل، لإثبات أن القرآن ليس من وضع البشر، لكن بعضهم يشتط به الحماس ويذهب الى القول بالإعجاز العددي، في سعيهم لإقناع المكذبين بالدين أن القرآن من عند الله، لكنهم لا يعلمون أن الله لوشاء لآمن كل البشر، لكنه لعدله أولا، شاء منح الناس فرصا متساوية، لأنه أراد ابتلاءهم في الحياة الدنيا للتنافس في تقواه ونيل رضاه، لتأهيلهم الى المرتبة التي يستحقونها في الحياة الآخرة.
لذلك ليس من حاجة لله في إيراد الإعجاز العددي (رغم قدرته على ذلك) في كتابه الكريم.
من أشهر تلك الإفتراءات، قول بعضهم أن العدد الذري للحديد هو ذاته رقم الآية من سورة الحديد التي ورد فيها اسم الحديد وهي 27 لكن العدد الذري هو 26 ، كما ذكر أن رقم السورة في القرآن هو ذاته الوزن الجزيئي، لكن في التدقيق نجد أن رقم السورة 57 والوزن الجزيئي 55.7 ، كما أن الحديد لم يذكر في سورة الحديد فقط بل ذكر في سورتي الكهف وسبأ أيضا، والسؤال أين الإعجاز العددي في ثلاثة معادن أخرى ذكرت في القرآن وهي النحاس والذهب والفضة؟.
الكذب حبله قصير، وحين اكتشافه يذهب الهيبة ويبطل الحجة، لذلك فأثر هذا الإستغراق الكبير في اكتشاف إعجازات علمية لم ينزل الله بها من سلطان، أثره ضار بالدين و يلحق بالدعوة خسارة فادحة.
من يبحث عن الحقيقة يكفيه دليل عقلي واحد، أما المعاند المجادل فلا يقنعه ألف دليل: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" [يونس:96و97].
إن الله لم يطلب منا اللجوء الى تلفيق الأدلة المادية لإقناع المكذبين بالدين، فعاقبة ذلك تنعكس سلبا على الدعوة، إذ يكفي اكتشاف تزوير واحد لكي يؤخذ حجة على الدين ذاته، وليس على شخص المزور، فيُذهب الثقة بجهود كثير من الصادقين.
لذا يجب تحرى الدقة والصدق في نشر كل ما يكتب، وخاصة ما هو تحت عنوان: "إعجاز القرآن"، سواء كان علميا او طبيا أو عدديا او لغويا، ولا يجوز نشر الا ما هو صحيح ومثبت، فالصدق وأمانة النقل هما أهم ميزات المؤمنين.