تاملات في حكاية: (حفنة تمر)، للطيب صالح!!
بقلم: عبدالغني كرم الله
رغم اني قرأتها عشرات المرات، سابقا، لكن، كلما احن للحزن النبيل، اقرأها، تتوق النفس للحزن، احيانا، دون غيره من الانفعالات، "انه اضحك وأبكى"، اذن للعقل القديم حكمة في (البكاء)، فصنع الغروب والفراق، والموت، والرحيل.
بل غمس الحزن في القلب، وكانت رسله الدموع، والموسيقى الحزينة، والغروب بخده المحمر من فراق الشمس، والحنين للأمس الغابر، في مملكة الماضي العجيبة، آلاف من الوقائع تدر الحزن في الصدر،..
ربما هو الهوة بين ما كان وما ينبغي ان يكون، مما دعى اصحاب النبي، وصفه (كان دائم الفكر، متواصل الاحزان) وكما وصف ذاته المنيرة، (الحزن رفيقي)، ذلكم الحزن النبيل،.
في تلكم القصة الحزينة، تكاد كلمة (النساء)، التي نطقها الجد لحفيده، عن علة كل ماجرى لمسعود هي بيت قصيد تلكم الحكاية، (النسااااء؟!؟)،.
.
.
تلكم الكلمة التي وقعت في خلد الصبي الصغير، موقع السحر، والقنبلة، حين نطقها جده، بل وإيحاء "الفظاعة"، ماذا فعلن "النساء"، حتى يكتفي الجد بنطقها، ولا يزيد، عن سؤال الصبي، عن سبب ما جرى لمسعود، من أسى، وبيع نخيله، بيع بناته الخضر، ذوات السعف المسدول..
ومن عجب ذات الكلمة (النساء)، كانت جنة في خلد مسعود، جارهم، في القرية، والحقل فضحى في سبيلها بكل غال ونفيس.
.
يتجلى المكر في طبيعة السرد، حتى تحسب القصة، وبطلاها هم "الابن والجد"، كما يحلو للطيب صالح دوما، الكتابة عنهما بلا ملل، تجدهما في الموسم، وبندرشاه، وأغلب قصصة، أواصر حب، أو بغض، بينهما، أي الأبن، وجده.
"ألسنا نكتب قصة واحدة ولكن بلبوس كثر؟ كما حكى ماركيز"، فتجري عوالم الحكي عن طفل وقرية وحقل ونهر، وقرآن وخلوة، ووصف شيق للنهر "الذي يختبئ وراء غابة الطلح"، من أي شئ يختبئ النهر، أخائف؟ ما اوسع مكر السرد، حتى في تخير كلمة دون غيرها في لغة مليئة بالترادف والاشتقاق، ولم اختار "يختبئ، دون كل الكلمات التي ربما تقود لنفس المعنى "ينحني، ينحرف، مثلا؟، ومن أي "شئ يختبئ النهر؟"، ولكن بغته تظهر حبكة أخرى "مسعود"، الخامل، الذي باع كل ما يملك، ثم تتضح الحبكة الأصيلة، الغامضة، كبطل موارب للحكاية وهن "النساء"، يتركك الطيب صالح، أنت وشأنك، في تصور "النساء"، كما جرى في خلد الطفل الصغير، سارد الرواية، النساء؟؟!!.
.
(حاذر، لا تقطع قلب النخلة)، لم ينتبه احد لما قال، هذه الفقرة، تكفي وصف حال عشاق الجمال، حتى في قلب مراثي الحزن، فالنخلة لم تعد نخلته، ومع هذا كان كالمسيح، يرى غيره قبح الكلب الميت، ويرى هو "نصاعة بياض اسنانه"، لم ينتبه أحد لقلب النخلة، واهتموا بالعرجون، ألهذا لم يهتم احد بقلب الحياة "المرأة"؟ كلهم شغلهم الكبد والعيش عن ثراء حسها، فجفوا مراتع حقولها، سوى بطل الحكاية؟.
.
هذا ما جرى لمسعود، بطل حكاية "حفنة تمر"، القصيرة، وللحق يلتبس علي الامر، من بطل الحكاية؟ مسعود؟ ام الطفل الذي تقيأ عمدا "حفنة التمر من حلقه"، في حين نعم الاطفال بإلتهامه حتى سال على صدور قمصانهم، وما القاسم المشترك بين الطفل ومسعود؟ حب الحياة؟ العيش من أجل نبض القلب؟ وسوق "العقل لخدمته"، أيتحقق ذلك في مقبل الأيام؟ فما اوسع الدهر؟ كمشروع للتعديل والتحميص والنظر؟، ربما؟ أم لابد مما ليس منه بد؟.
.
لمسعود صوت جميل، وللطفل تلاوة بارعة، ونغم حسن، وكلاهما في غير مكانه، فجد الطفل صارم، "عقل بلا قلب"، في حين ان مسعود مجرد "قلب"، مولع "بالنساء"، ولا يبالي في سبيلهم خسارة جنته ذات الأعراش، حتى حنجرته صارت طرية، كي تكون امتداد لذلك الشغف الاسطوري، الذي بسبيله خسر "راضيا، قدره المحزن"، مائة فدان، تمتد من الصحراء حتى حافة النيل "ضفته الصاخبة بالموج، والطمي"، خسرها كلها، بسبب "النساء"، وقد ظل مرآة لجمالهن "حتى صوته الطري، كان استجابة جمالية، من غرائز الحنجرة، لهذا الإطراق العميم"، ولم لا، ألا يتكيف الحيوان مع البيئة؟ فلم لا يتأثر ببيئة القلب، وهي الأعمق، وكل فصولها اليانعة تجري في ممكلة الضلوع؟ ويتكيف معها، بصوت رخيم، مثل العيون التي تتمتع برؤية الجمال اللامحدود للمرأة؟.
.
كان الطفل موزع بين عشق جده "لا يباري إبيه في طرقات القرية"، بل جده، وبين عشق مسعود (الخامل، الذي لا يحبه الجد)، كان جده طويلا، ذو لحية بيضاء، أفرع طول في البلدة، حين يدخل اي دار (ينحني كإنحناء النيل وراء غابة الطلح)، وكل من يصافحه ينظر له من أسفل، ومع هذا كان باطن الطفل مولع بمسعود، وصوته، وإعجابه بالكون الغريب "النساء"، وليس للطفل حظ في تصور هذا الولع، وسبر سره "فلا حظ له في غريزة نائمة بداخله"، ولا يزال مسكون بمسرات طعم البلح في اللسان، واللعب بالانثى الخضراء، النخلة، حتى همس له مسعود وهو يلعب بسعف شتلة نخل صغيرة "النخل كالأدميين يابني، يفرح ويتالم"، لما مده مسعود حسه "للكون الأنثى"، الولود كل ثانية، عشبة، أو حشرة، أو بني آدم، أو إنسان "ولادات الحياة والإنسان لاتكف في نظر الشعراء والرسل، الام طلق تحسه الحدوس السوية، وتنتظره "وراء النهر، والاختباء من سوء العالم، الظالم لقلب الحياة "المرأة" الكون يحاكيها، دوما.
.
نعم، الأرض كلها، أنثى في عين مسعود، ودرتها "المرأة"، وذات الحس المناقض نجده في قلب الجد، الذي لا يعرف الضحك "كما حكى الطفل الراوي"، حين شرح للطفل سبب ماسأة مسعود "النساء"، في شرح هم الحياة "العيش"، لا "الحب"، ولذا وجب التوفير، والحرص، والنشاط الزائد "لا أحب الرجل الخامل"، وكان مسعود نموذجا للمتفرج على المرأة الحياة، من كوة الكسل العظيم، حين الكون كله، لوحة، تستلزم كسل الذهن والحس والبدن، في متعة الفرجة الخلاقة.
.
لاشك جرت هناك غيرة، بين النخيل، والنساء، كشأن الإناث، هن، أو نحن، وذلك في بال مسعود، ولم يتوانى في الانحياز للأنثى السمراء، في مكان الأنثى الخضراء، النخيل، فخسره، كله، في سبيل بحبوبه العيش في قلب "النساء، الجنة، الفتنة"، كما في بال الجد، حين نطق كلمة "النساء"، وكأنها شئ فظيع، يخسر الفرد بسبيله كل شئ، حتى "نخله"،وسمعته، وطينه "أي وطنه"، فهل تعطي النساء مقابل هذا الفداء وطن آخر؟ غير مرئي؟ يجعلنا نصيح كعاشق في ركن بغدادي فقير "نحن في لذة، لو عرفها الملوك لجالدونها عليها بالسيوف"، ثراء العاطفة؟ اللذة الفطرية الأولى، التي قهرت بطربها ابيقور، وطلبته؟..
.
هل اصابت عدوى مسعود الطفل؟ حين تقيأ "لذة التمر؟"، وراء الغابة، حيث يختبئ النهر نفسه "ولم يختبئ؟ كي يصبح مأوى للعشاق؟ وهل اختار الطفل لذة أخرى؟ ليس للحس فيها سهم؟ حين تسمم حلقه بتمر سرق من مسعود، بتهمة "النساء"، من عرف قاس؟ جامد؟ يرجح اقتصاد "النمل"، والنحل؟ على تباريح الجوى؟.
.
يبارزك في السرد، منحى هل هبط مسعود من جنته بفعل حواء؟ أم صعد لها؟ وترك اهل البلدة في صراع الديوك، وجمع عراجين تمره؟ ورأى وراء غبار الكبد، وجه "سلمى؟"، لو تجلى عن ناظريك الغبار، لرأيت الكئوس كيف تدار؟، وكان الثمن الفظيع "بيع جنته، فدادينه المائة" تمنت سليمى ان أموت بحبها "وأهون شئ عندنا ما تمنت؟ هل حقق هذا الشرط الجزائي العظيم؟ الموت والفقر في سبيلها؟ ووصل للسعادة الداخلية؟ ربما.
.
ولكن من قال بأن ال "مائة فدان"، لم تكن هي سبب لم تلكم الجواري لفراشه؟ والهيام الغريب بهن؟ وهذا القهر، والولع الحار بهن "كلهن"، هو من سول للمخيال، تعدد أمزجة التوق؟ بصنع الحور العين؟ ومن عجب، من امرأة واحدة، تبدل محياها، وسمتها، "من نور خيالك، وتوقه"، ليس للجنة وصف؟ فهل استعجل مسعود؟.
.
في ختام السرد، في الحكاية الموجزة، البارعة، كنهد صغير، يجري الطفل، بعد أدرك سر الحياة، ومن الاستحالة الجمع بين سمات "الجد"، ومسعود، فهذا أو أو ذاك، فأدرك كبد الحياة، وانحاز لمسعود "الفنان"، في عالم التجار، وتقيأ عمدا "وراء النهر المختبئ"، تمرات، أو حفنة تمر، منحها له الجد.
.
وأنحاز لمسعود، بصورة من الصور، للنساء. ولكن متى يتجمل الدهر، ويترك لمسعود النساء والأفدنة؟ تكلم هي قضية الحياة، البحث عن العقل والقلب معا، في وئام، وهناء.
.
يسرح طرفي دوما، بعلاقة الطيب صالح بالنخل، شئ مثير، فعلا، حتى اني عنونت رثاء له، كتبته قبيل سنوات، عند رحيله "نخلة على القلب"، فقد هام الطيب صالح بالنخل في كل حياته، وحكاياته، كرمز للشموخ، والعزة، والرسالة، ففي موسم الهجرة، نجد النخلة العجوز، هي من تعظه بلا كلام، بأنه "مثلها، له هدف وأصل وجذور"، وفي نخلة على الجدول، يكون الجريد كأيدي راقصة، (حين ترقص مع النسيم)، وكأيدي تستغيث من الغرق، حين يهم ببيعها للتاجر حسين، فقط (الدومة)، هي من غير سطوة النخيل، بل بالأمكان ان تكون "نخلة ود حامد"، ولا يغير شئ من القصة، أظنه خاف الملل، ولا ملل، مع رجل يعرف الوصف، والحب.
.
وفي حفنة تمر، كانت النساء بديلات النخيل، خير خلف، لخير سلف، باسقات، سمر، ذوات عراجين وسعف لدن، لا يمل، عبر التاريخ.
.
اتمنى من يعكف، على درس النخيل، والطيب صالح، في دراسة معمقة، جرئية، محدثة، من شباب اليوم، في الجامعات، (بدل دراسات متحجرة، رتيبة)، بين عمتكم النخلة، وعمكم الطيب صالح، كلاهما مثمر، وشامخ، أبد الدهر..
.
ولم اختبأ الطفل ايضا، مثل النهر، وراء الغابة؟ بحثا عن حرية؟ وحق؟ وبراح؟ وخلوة، وأنوثة حرة، عزيزة؟ الله اعلم.
.
ولكن، هل يختبئ غير الخائف؟ والممتعض، والباحث عن حرية؟ من العيون الجائرة.
.
علي يقين، ان النخلات متن، الان، إنهن إناث يعرفن عاشقهن، زارعهن،.
..