الحرية والتغيير في قطر: الشفافية خير وسيلة للدفاع (1-2)
بقلم: عبد الله علي إبراهيم
وفرت ندوات عقدتها قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) (قحت) في دولة قطر فرصة بغير سابقة لعرض آراء مدروسة عن موقفها من الحرب التي تعركنا بثفالها في السودان. فعرضت على لسان بابكر فيصل، رئيس التجمع الاتحادي، وعمر الدقير، رئيس المؤتمر السوداني، والواثق البرير، الأمين العام لحزب الامة، وطه عثمان، القيادي في تجمع المهنيين، دفوعات بوجه اتهامات لها بالتحريض على الحرب تأذن للمعلق مرجعاً في النظر لأطوار في الحرب لا يكون التحليل إلا به. كما واجهوا تهمة ممالاتهم لدعم السريع، بل الحلف معه، لتوقفهم عن إدانته على خروقه لأعراف الحرب. وأحسنوا عرض ما اتفق له في هذه الجهة.
قسم بابكر دعاة الحرب أو مؤيديها إلى جماعات ثلاث هي: 1) المؤتمر الوطني والإسلاميون ممن يريدون العودة بالحرب إلى سدة الحكم، 2) سكان مدن كالخرطوم والجنينة وأخرى في دارفور تضررت مباشرة من الدعم السريع بالترويع. ووصفها بالكثرة و"تقودها العاطفة" للدعوة لاستمرار الحرب، 3) جماعة من أهل الرأي التي ظاهر حجتها سديد وباطنه أخرق. فهي جماعة تدعو أن يحتكر الجيش السلاح كالممثل الشرعي للدولة. ولا خلاف له معها هنا. وهو تمييز للجيش جاؤوا هم أنفسهم به في الاتفاق الإطاري. واتفق بابكر معهم في قولهم أن المساس بهذا الاحتكار مؤد إلى عواقب وخيمة في تحلل الدولة. ولكنه اختلف معهم هنا. فدعوتهم هذه لاستمرار الحرب، في نظره، هي التي ستؤدي إلى هذه العواقب التي بدأت تطل برأسها. فوقف الحرب، وهي دعوة قحت، هي وحدها التي ستصون الجيش من الهزيمة. فيظل يحتكر السلاح وتأمن البلاد من التفكك من عواقب الحرب الذي يخشاه أهل الرأي.
سنتجاوز هنا عن صمته عن أنه ربما كان هناك من يريد استمرار الحرب في الدعم السريع أو بين أنصاره غير القليلين.
يستغرب المرء لتقسيم بابكر دعاة الحرب أو مؤيديها إلى ثلاث جماعات طالما شمل الجماعة التي تضررت مباشرة بالحرب من انتهاكات الدعم السريع لأرضهم وعرضهم. فأي من الجماعات الأخرى سلمت كذلك مما لم تسلم منه المجموعة الثانية من تجريد العقار والمال والإهانة التي وصفها واحد منهم ب"الحُقرة"؟ بل لم تسلم جماعة كبيرة من دعاة "لا للحرب" مما لم تسلم منه الجماعات المؤيدة لها. وساق تبويب بابكر لمؤيدي الحرب كما فعل إلى كلمة "هوينة"، في قول السودانيين، وهي أن من "حقرتهم" الدعم السريع، وقد قصرها على المجموعة الثانية، ممن قادتهم "العاطفة" لتأييد استمرار الحرب.
وهذا تهوين جريء لضحايا حرب استهدفتهم كما استهدفت العسكريين. ولم تملأ جند الدعم السريع أيديها من مالهم وعقارهم وشرفهم فحسب، بل استباحت المدينة أيضاً للأشقياء من كل حدب وصوب ليكملوا ما بدأته من تشليع. فتصوير صدور هذه الجماعة في تأييد الحرب إلى فجيعة عن "عاطفة" على ما فقدوا تصوير غير سوي. وبدا منه كأن سيولاً أغرقت ألبوم صور أسرهم مما يعبر الأمريكان به عن الرضوض النفسية التي توقعها حادثات الطبيعة من عاصفات وزلزال.
لم يكن من شلع الدعم السريع عقارهم في الجنينة كما في الخرطوم مجرد مدنيين صدف أن نكبوا في تقاطع نيران الحرب. كانوا عناوين في ثقافة لم يخف الدعم السريع تقصدها من جهات هوياتها العرقية والسياسية. فأهل الخرطوم في نظر هذه الثقافة "جلابة" أثروا وأفحشوا لتقلدهم دولة 56، أي منذ استقلال السودان في 1956. وتطغى شعواء تجريد هذه الجماعة من كسبها الحرام في الدعم السريع لا تسترها ورقة توت البرامج السياسية الغراء عن الديمقراطية والمدنية التي يدبجها مستشاروه مكاء وتصدية. فتجري هذه الشعواء على ألسنة جنده الذين يذيعون تدميرهم لمكاتب تسجيل العقارات في كل مدينة يدخلونها كفعل يريدون به إخفاء أثر تملك أهل البيوت التي يحتلونها.
ولا تبدو غرارة فكرة بابكر عن انقياد ضحايا حرابة الدعم السريع إلى "العاطفة المفهومة" إلا إذا قاربنا مفهوم "التطهير العرقي" في تحليل ما يقع لسكان الخرطوم على يد الدعم السريع. وهو المفهوم المستصحب في تحليل ما جرى في الجنينة التي بيت الدعم السريع والجنجويد لعقود تبديلها "أهلاً" خيراً من أهلها. ولست أجد مثلاً في عنونة مثل هذه الشعواء العرقية والسياسية أدق مما جرى لليهود في "ليلة الزجاج الهشيم" (9-10 نوفمبر 1938).
وهي باكورة شرور الهولوكوست على اليهود في المانيا. ففي تلك الليلة هاجمت فرق شبه عسكرية من شباب النازيين دور اليهود ومحالهم التجارية ومستشفياتهم ومدارسهم يهدمونها بالمطارق، ويكسرون نوافذها بعد سماعهم نبأ مقتل دبلوماسي ألماني على يد شاب يهودي في باريس. وتناثرت شظايا الزجاج الهشيم في الطرقات. ومن هنا جاءت تسمية ذلك اليوم الشؤم على اليهود. وحصروا خسائره في أكثر من مئة قتيل، و638 منتحر من فرط العار، وهدم 267 معبد في المانيا والنمسا، و7000 محل تجاري. واعتقال 3000 يهودي. ولا خفاء أنه عدوان ربط بين هوية عرقية وثروة مظنون أنها تأت من لؤم أهل تلك الهوية.
وكتب صحفي عن يوم الزجاج الهشيم: "ليس من دعاية أجنبية أرادت تلطيخ سمعة المانيا أمام العالم كانت ستنجح نجاح تلك الليلة من الحرائق والخرائب والعدوان على مواطنين أبرياء عزل فمرغت سمعة ألمانيا في الدنس". ولم يصرف العالم شكاة اليهود من ذلك العدوان ك"عاطفة" بل كجريمة حرب وإنسانية اضطر لاختراع اسم لها بعد هزيمة النازية وخلال محاكمات نورنبيرج للنازيين: جنوسايد (geno وهو القبيلة أو العرق وcide وهو القتل) أي العدوان والقتل على الهوية العرقية أو القبلية أو الوطنية. وصارت جريمة في الحرب وغير الحرب.
ولا أعتقد أن هناك من قال مثل بابكر أن اليهود وقفوا بجانب استمرار الحرب العالمية الثانية مدفوعون بالعاطفة. فلم يقع ما روعهم لذنب ارتكبه أي منهم على مسؤوليته. بل هم حملة ذنب متكافئ المقدار في كل منهم جملة وعلى حدة. ففقدهم ليس في مال أو عقار. فقد تغزوهم الطبيعة بكوارثها وتحدث بهم ما لم يحدثه الدعم السريع. والعوض على الله. ولكن تجريد الواحد على الهوية "حقرة".