محمد دهب تلبو
أثناء قراءتي للكتب تنسج ذاكرتي جواً خاصاً بما تضبطه بين ثنايا السطور فيُعتمل احساساً خاصاً في الدواخل ؛ احساساً حقيقياً كالذي تتركه ماركة عطر ما بعد جلسة مع الحبيب؛ او ضحكة طويلة لعزيز راحل؛ او حتى صفعة لاسعة من احدهم؛ أعني ذلك الشيء الذي يعلق بذهنك فتجتره الذاكر ة عند تكرار جزء من محيطه. قرأت اول كتابا ً للجاحظ بين أشجار شحيط مورقة على شفى جرف وادي كسارة ؛كان النهار في أوله بعد ليلة مطيرة، ندى الارض الفائزة بصيب السماء المسيطر على المكان يبعث قشعريرة خفيفة في الجسد مع الظل الوارف لشجرة العرديب بينما الذهن سابحاً في متن الكتاب الطويل ؛ كتاب "البخلاء" معبأ بالطرف والتندر، لذلك ارتبط أدب الفكاهة في ذهني بنزول المطر وطراوة الهواء المعبق بندى الارض. في رواية "الرحيل ضد الازمنة الرمادية " اعتمد ابو عسل السيد "المخاتلة السردية" في تقنية الفلاش باك، ولكن كل ذلك السحر السردي البديع كان سيضيع هدراً لولا صهب تلك الظهيرة التي أتممت فيها سحر الرواية حيث كانت داخلية محمد صالح واجمة من فرط الحرارة، فأمتزجت غرابة العجوز ذي الأسنان برتابة المكان لتخلق عالم اخر ، عندما كنت في عقدي الاول كنت كثير الإصابة بالحمى حتى بت اشم رائحتها قبل ان ترتفع حرارة جسمي؛ وفِي ذلك اليوم الرتيب شممتُ رائحة الحمى وانا اطبق رحيل عوالم بوعسل ابوعسل ونظرات عجوزه المجنون؛ غالباً ما يكون الناس أحاسيس خاصة بالالوان ؛ وألوان خاصة لأسماء الناس؛ ولكن ليس بدقة إحساسي بلون سماء ذلك اليوم الطويل الذي قضاه مايكل. ك هائماً في البرية في رواية الجنوب أفريقي جون كوتزي " حياة وزمن مايكل.ك"؛ ومن غرائب الأخيلة ان مشهد المخيم في رواية " جمجمتان تطفئان الشمس" لمنجد باخوس يتطابق في ليله مع مشهد ك عند هروبه من العساكر ولكن مرارة انهزام مايكل عندما وجد البطاطا التي اجهد نفسه لرعايتها غير صالحة للأكل لم اجد له مثيل احساس حتى الان !
الغانية ميامي ديينغ في مشهد حي صورت زيارة طالبات المدرسة الثانوية للريف واستمتاعهن بالثرثرة والاكل على البرية في رائعتها " الظل يحترق"؛ ذلك بالضبط ما استطعت اختباره في رحلة عفوية الى ريف شمال كردفان حيث كناً هائمين في الرمال حين وجدنا الصديق جاد السيد أحمد عثمان فجأة واقتادنا الى باديته الغارقة في بحرٍ من الهشاب.
بحسب تجربتي الإطلاعية فإن الياباني هاروكي موراكامي هو أكثر من يجيد حبكة الاحساس هذه ؛ حيث وجدت نفسي غارق في دوامة تطابق حسي في اكثر من خمسة عشر مشهد متفرقة على تسع روايات ، ولكن المدهش في الامر أن المشاهد المتطابقة هذه متضادة كلياً في صيرورتها؛ وفِي المقصد أيضاً.
قبل قليل؛ كنت اطالع كتيب صغير للدكتور جابر عصفور يتحدث عن الغواية السردية، مررت ببيت المعري الشهير الذي نعى فيه خلافة الأمويين بالأندلس فتحسست وسطى يدي اليمنى؛ دائماً ما يرجعني ذلك البيت الى ظهيرة باردة في شتاء ٢٠٠٣ حيث كنت وقتها أتأهب لمغادرة المرحلة الأولية في الدراسة؛ طالعت البيت من كتاب مهترئ يخص احد اخوتي وكنت منبهراً بجمال تصويره الا إن الاحساس إنقلب رأساً على عقب بعدها بلحيظة عندما لدغتني عقرب صغيرة كانت تختبئ تحت ركام الكتب المهترأة على الوسطى .