وليمة ما قبل المطر
إستيلا قايتانو
__
"أولير" أسمه يعني العراء، ذلك لأن أمه انجبته هناك عندما داهمها
المخاض وهي تحتطب، بلدته محاطة بالغابة والسماء. كان يغط في نوم عميق عندما بدأ ذلك الظل يزحف بطيئاً نحو بلدته فبدأت مثل انسان
ضخم يسحب غطاء نحو جسده، توارت الشمس خلف غيوم داكنة،
الاشجار تتمايل بفعل رياح خفيفة، تلوح لكرنفال الطبيعة المفاجئة..
بدأت النسوة نصف العاريات في التحرك مثل سرب النحل، يشرعن في نقل ما نشرته من بافرا وذرة نابت إلى داخل الأكواخ، كن يتصايحن
راطنات، تنبه كُلٍ الأخرى أو تمازحها، وأخريات مهرولات وعلى رؤوسهن قدور الماء والصغيرات كان الماء ينحدر على صدورهن
النابتة فيضفي لوناً أسود مصقول على بشرتهن.
جلس الرجال تحت سقيفة ضخمة تجاور ساحة الرقص، يتوسطهم مدفأة من الأخشاب الجافة لاشعالها عند هطول الأمطار في صخب من الضحك والغناء، غناء أطلقته اخواتهم أو حبيباتهم، واصفاتهم بالشجاعة والقوة ويتخلل الأغنية بعض الغزل، كان المقصود بالوصف يهب واقفاً ضارباًأرجله بالأرض ملوحاً برمحه في الفضاء كأنه يقاتل عدواً لا يراه أحد سواه،
عالم آخر طفولي، تشده شجرة "عرديب" ضخمة مغرية أياه بالثمار الرطبة التي تساقطت بفعل الرياح، بعضهم كان باسطاً ذراعيه
مثل طائر منشدين أغنية المطر: "ما ترا تالي.. سكي سكي ما تجي..
ما ترا تالي.. سكي سكي ما تجي" أيتها الغيوم صُبيّ.. إذا كنت رزازاً
فلا تأتي.. فلا تأتي.
عندما يفقد أحدهم توازنه يسقط منكباً على الأرض في ضجة من ضحك البقية ويزداد الضحك كلما حاول النهوض فيجد نفسه مشدوداً نحو الأرض والأكواخ والغابة تدور حوله في سرعة كأنها في سباق، بعد انتهاء الدوار يعود إلى اللعب مرة أخرى.
ركض صديقا (أولير) طفلين في السادسة من العمر، يشدك ذاك البريق الذي في عينيهما شداً، اتجها نحو خالتهما لتوقظه لهم حتى لا تفوته
وليمة ما قبل المطر، رفضت في حنو قائلة: "ليس من اللائق إيقاظ النائم، لأنه بحاجة إلى ذلك وإلا لم ينم! أظهرا بعض الرضا عائدين
إلى الشجرة كانوا في قمة نشوة اللعب، كانت ضحكاتهم وشجارهم
يصل متقطعاً إلى داخل الأكواخ مصاحبة معها حفيف الغابة".
زمجرت السماء كأن هناك كائن يختبيء خلف الأفق مصدراً تلك الأصوات،
مع بداية الرزاز اتجه غالبية الأطفال نحو أكواخهم ذات الجدر الدائرية
رافعين عقيرتهم بانشودة المطر، دائرين حول أنفسهم ساقطين على الأرض في براءة تطغى على كل شيء حتى على عريهم، انهمك الصديقان في إلتقاط الثمار عازمين على التقاط نصيب صديقهما النائم، كبر حجم القطرات الباردة التي كانت تتفجر عندما تلامس جسميهما، الرياح تعصف بكل شيء أيضاً هناك المزيد من الثمار، وذلك الكائن خلف السحب يصدر أصوات مكتومة مصاحبة لبريق قوي.
هرولت أم "أولير" إلى الداخل حاملة بعض الأخشاب الجافة وقد بللها
المطر حتى التصق ثوبها بجسدها النحيف، أمرتها الجدة قائلة: أخلعي
هذا الرداء الأحمر ألا ترين هذه الصواعق؟! حينها كانت ترقد حفيدها
على جتله حتى لا يستلقي على ظهره.
فجأة انفجار هائل، ثم برق طويل يخطف البصر، كأن هناك من امسك بتلابيب السماء ومزقها إلى شطرين، تلجمت القرية وهي تستمع إلى ذلك الطنين الذي ينزلق في دهاليز آذانهم، والكل على يقين تام بان هذه الصاعقة قد وصلت الأرض لا محالة.
استيقظت القرية من بياتها الرعبي على ولولة النسوة اللائي كانت أكواخهن تحيط بالشجرة، الشجرة التي انشقت من المنتصف تماماً، نصف مرمي يتساعد منه دخان يتراقص في خبث، والنصف الآخر ينزف دماً أخضراً، كأن هناك فأس هوى من السماء ليرسم ذلك الذهول المخيف، ذهول الحياة عندما تنتزع فجأة، صرخت احداهن منبهة القوم على أن هناك طفلين تعرضا لضربة الصاعقة، تبعثر الجمع للبحث عن الجثتين لابد أن الصاعقة قد القتهما بعيداً عثروا عليهما التفوا حولهما ينظرون في رعب إلى ذلك الشريط الأسود الذي يمتد من رأسيهما إلى ما بين فخذيهما، شريطاً يوضح ذلك الاحتراق المفاجيء كأنهما انشطرا وتم لحامهما مرة أخرى، ثم ثمار متفحمة التصقت على كفيهما الصغيرتين.
كانت الفاجعة تلجم الأمهات، حتى تلك الدموع التي تقف في المقل تأبى ان تنحدر، كن يضربن على صدورهن وبطونهن التي انجبت وارضعت من ستأخذه الصاعقة.
هدأت السماء معلنة رضاها بهذا القربان، تبعثر الرجال، أسرع احدهم إلى فناء الرقص ساحباً أكبر الطبول ضارباً عليه برتابة معلناً النباء
في كل القرية والقرى المجاورة، بعد قليل انحدر الناس من كل مداخل القرية مشاركة في العزاء.
النسوة تراقبن أم الطفلين كانتا تتدحرجان على الأرض حتى لا تؤذي أحدهما نفسها، تم تمديد الجثتين والقاء ورق الموز عليهما لحين تجهيز القبر.. قبراً موحداً خلف أكواخ والدتا الطفلين.
تفلت جدة أولير لعاباً داكناً بفعل التمباك على راس حفيدها المحبوب قائلة: أشكر من جعلك تنام في هذا الوقت بالذات فقد انقذك النوم من موت محقق، ويعلم الله إذا مت لكنت لاحقة بك لا محالة لذا ستنام كلما بدأت الأمطار في الهطول مدى حياتك، خرج "أولير" داعكــاً عينيه وهو يسمع نواح النسوة، ألقى نظره على ورق الموز محاولاً اختراقها في فضول طفولي عنيد، حاولت أخريات دفعه بعيداً، وأخريات
أزددن عويلاً ودحرجة على الأرض، خاصة والدتا الطفلين، وسط دهشته تلك كان صوت الرعد يقترب والسحب تحبو بثقل على جدار السماء برقت السماء فجأة مصدرة رعداً منتزعة الجثتين من تحت ورق الموز، والقتهما بعيداً كأنها تكشف لاولير ما حاول الأهل اخفائه، صرخت النسوة وأخريات ركضن صوب اكواخهن، شرعت الجدات بفعل بعض الطقوس لزجر الصاعقة، كن ينثرن الماء والتراب في كل الاتجاهات،
وأكبرهن سناً كانت تقول: أهدي ايتها الصاعقة.. أهدي ايتها الأرواح..
يجب أن تعلمي بانك فطرتي قلوبنا.. فيكفي ذلك دعي الطفلين بسلام..
وهيا أرحلي.. أرحلي بعيداً خذي دماء ضحاياك بعيداً.. بعيداً عن هنا.
هدأت السماء كانها سمعت هدوء الرجال الأقرب إلى اللوم، ارتمى "أولير"
في حجر جدته باكياً مرتعد الأوصال وذاك الشريط الأسود يتقافز أمام عينيه، هذا يعني الموت! موت صديقيه يعني انهما لن يلعبا معه لعبة الاستخباء، الموت يعني ...